قال سبحانه وتعالى: {مرج البحرين يلتقيان } مرج
بمعنى أرسل البحرين، يعني المالح والعذب {يلتقيان }، يلتقي بعضهما ببعض،
البحر المالح هذه البحار العظيمة، البحر الأحمر، والبحر الأبيض، والبحر
الأطلسي، وهذه البحار كلها مالحة، وجعلها الله تبارك وتعالى مالحة، لأنها
لو كانت عذبة لفسد الهواء وأنتنت، لكن الملح يمنع الإنتان والفساد، والبحر
الآخر البحر العذب وهو الأنهار التي تأتي: إما من كثرة الأمطار، وإما من
ثلوج تذوب وتسيح في الأرض، فالله سبحانه وتعالى أرسلهما بحكمته وقدرته حيث
شاء - عز وجل - {يلتقيان } أي: يلتقي بعضهما ببعض عند مصب النهر في البحر
فيمتزج بعضهما ببعض، لكن حين سيرهما أو حين انفرادهما، يقول الله - عز وجل
-: {بينهما برزخ} وهو اليابس من الأرض {لا يبغيان } أي: لا يبغي أحدهما على
الآخر، ولو شاء الله تعالى لسلط البحار ولفاضت على الأرض وأغرقت الأرض،
لأن البحر عندما تقف على الساحل لا تجد جداراً يمنع انسيابه إلى اليابس مع
أن الأرض كروية، ومع ذلك لا يسيح البحر لا هاهنا، ولا هاهنا بقدرة الله عز
وجل، ولو شاء الله - سبحانه وتعالى - لساحت مياه البحر على اليابس من الأرض
ودمرتها، إذن البرزخ الذي بينهما هو اليابس من الأرض هذا قول علماء
الجغرافيا، وقال بعض أهل العلم: بل البرزخ أمر معنوي يحول بين المالح
والعذب أن يختلط بعضهما ببعض، وقالوا: إنه يوجد الآن في عمق البحار عيون
عذبة تنبع من الأرض، حتى إن الغواصين يغوصون إليها ويشربون منها كأعذب ماء،
ومع ذلك لا تفسدها مياه البحار، فإذا ثبت ذلك فلا مانع من أن نقول بقول
علماء الجغرافيا وقول علماء التفسير، والله على كل شيء قدير {فبأي ءالآء
ربكما تكذبان يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان} أي: يخرج من البحرين العذب
والمالح اللؤلؤ والمرجان، وهو قطع من اللؤلؤ أحمر جميل الشكل واللون مع
أنها مياه، وقوله تعالى: {منهما} أضاف الخروج إلى البحرين العذب والمالح،
وقد قيل: إن اللؤلؤ لا يخرج إلا من المالح ولا يخرج من العذب، والذين قالوا
بهذا اضطربوا في معنى الآية، كيف يقول الله {منهما} وهو من أحدهما؟
فأجابوا: بأن هذا من باب التغليب، والتغليب أن يغلب أحد الجانبين على
الآخر، مثلما يقال: العمران، لأبي بكر وعمر، ويقال: القمران، للشمس والقمر،
فهذا من باب التغليب، فـ {منهما} المراد واحد منهما، وقال بعضهم: بل هذا
على حذف مضاف، والتقدير: يخرج: من أحدهما، وهناك قول ثالث: أن تبقى الآية
على ظاهرها لا تغليب ولا حذف، ويقول {منهما} أي: منهما جميعاً يخرج اللؤلؤ
والمرجان، وإن امتاز المالح بأنه أكثر وأطيب.
فبأي هذه الأقوال الثلاثة، نأخذ؟ نأخذ بما يوافق ظاهر القرآن، فالله -
عز وجل - يقول: {يخرج منهما} وهو خالقهما وهو يعلم ماذا يخرج منهما، فإذا
كانت الآية ظاهرها أن اللؤلؤ يخرج منهما جميعاً وجب الأخذ بظاهرها، لكن لا
شك أن اللؤلؤ من الماء المالح أكثر وأطيب، لكن لا يمنع أن نقول بظاهر
الآية، بل يتعين أن نقول بظاهر الآية، وهذه قاعدة في القرآن والسنة: إننا
نحمل الشيء على ظاهره، ولا نؤول، اللهم إلا لضرورة، فإذا كان هناك ضرورة،
فلابد أن نتمشى على ما تقتضيه الضرورة، أما بغير ضرورة فيجب أن نحمل القرآن
والسنة على ظاهرهما {فبأي ءالاء ربكما تكذبان } لأن ما في هذه البحار وما
يحصل من المنافع العظيمة، نِعم كثيرة لا يمكن للإنسان أن ينكرها أبداً.